نائب اركيز آب ولد عبد ربه يكتب : المسار التصاعدي للإصلاح الهادئ

جمعة, 02/05/2025 - 08:35

 

من بين أكبر التحديات الجسيمة التي تقف عائقا في وجه الدول الساعية إلى تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة يبرز الفساد كخطر داهم يفتك بالمقومات المادية والمعنوية للدولة الحديثة، فيهدد الموارد المالية وينسف أسس الثقة في المؤسسات، ويقوّض العدالة، ويحدث شرخا عميقا في النسيج الاجتماعي، مشكلا بذلك تهديدا استراتيجيا للاستقرار ذاته.

 

وفي بلادنا لم يعد مفهوم الفساد مجرد موضوع للاستهلاك الإعلامي أو المناكفات السياسية، بل تحول إلى معركة إصلاح وطني يقودها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منذ توليه مقاليد الحكم، مدعوما اليوم بحكومة الوزير الأول المختار ولد أجاي، التي شرعت في تفعيل هذا التوجه على الأرض من خلال خطط عملية وتشريعات صارمة ومؤسسات رقابية جديدة.

 

فور توليه الحكم اختار فخامة الرئيس محمد الشيخ الغزواني أن يجعل من محاربة الفساد حجر الزاوية في برنامجه، فكانت الانطلاقة بإعادة الاعتبار لمؤسسات الرقابة، وتعزيز استقلال القضاء، والنأي بمؤسسة الرئاسة عن أي شبهات تتعلق بالمصالح الشخصية أو تفضي للمساس بالمال العام، وقد شكلت هذه الخطوة رسالة إيحائية جلية عنوانها العريض "الإصلاح الجاد".

 

ثم جاء اختبار “ملف العشرية”، والذي واجهه النظام بمنتهى الانضباط والحياد، دون توظيف سياسي أو تشهير، تاركا الكلمة للمؤسسات القضائية والتي عملت بمهنية وشفافية رغم محاولات التشويش والدعاية المضادة. وقد جسد هذا الملف التحول الجذري في طريقة تعامل الدولة مع قضايا المال العام، ورسخ صورة جديدة عن رئاسة الجمهورية كمؤسسة فوق الشبهات.

 

كما شهدت هذه المرحلة تطويرًا في القوانين، وتوسيعًا للرقابة، وتعاونًا دوليًا في مجال التدريب والدعم الفني، إلى جانب رقمنة بعض الخدمات لتقليص الثغرات التي يتأتى استغلالها للفساد.

 

وقد أسفرت هذه الإجراءات عن نتائج ملموسة وارية للعيان، فقد انجزت المفتشية العامة للدولة أكثر من 30 مهمة تفتيشية خلال عام واحد، كشفت عن اختلالات ضخمة واستردت أموالا طائلة للخزينة العامة، بعيدا عن التهويل الإعلامي أو الابتزاز السياسي.

 

واليوم نحتفي بتشييد إطار مؤسسي شامل لمحاربة الفساد، من أبرز مظاهره السلطة الوطنية لمكافحة الفساد، حيث أوكلت إليها مهام واسعة تتجاوز التبليغ والتفتيش، لتشمل الوقاية والتنسيق بين مختلف الهيئات، والإشراف على الاستراتيجية الوطنية، واستقبال التصاريح بالممتلكات والمصالح، وستُعنى هذه الهيئة بوضع وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد، مع العمل على تقييم أثر بؤر الخطر ورسم خرائط للمجالات الأكثر عرضة له. كما ستسهم في تقديم توصيات لتعزيز الحوكمة، والوقاية من تضارب المصالح، إضافة إلى تطوير قواعد بيانات وطنية تُستخدم في تحليل ومتابعة قضايا الفساد بشكل منتظم.

 

لكن المثير للاستغراب، رغم هذه الجهود كلها، أن بعض الأصوات السياسية تحاول اختزال كل هذا المسار الإصلاحي الجاد في جزئية تتعلق بإلزامية النواب بالتصريح بممتلكاتهم، وكأننا أمام استثناء أو ثغرة قانونية، او قرار مفروض من الخارج في حين أن الواقع يؤكد أن هذا الإجراء جاء بطلب من داخل المؤسسة التشريعية ذاتها، نتيجة وعي داخلي بأهمية تعزيز الثقة بين المواطن ومؤسساته وبمبادرة من نواب من الأغلبية والمعارضة على حد سواء. وليس من المنصف – لا سياسيا ولا أخلاقيا – تحويل خطوة إصلاحية كهذه إلى مادة للجدل والمزايدات.

 

الأجدر اليوم بالنخب السياسية من كل طيف أن تركز على دعم هذا المسار، لا التشويش عليه. فالمعركة ضد الفساد ليست معركة حكومة فحسب بل هي رهان وطني جامع. ويستحيل كسب هذا الرهان دون وعي مجتمعي حقيقي بخطورة الفساد وآثاره، وتفعيل دور المواطن في مكافحته، ولن يتحقق اي من ذلك في ظل بيئة سياسية تتغذى على الاستقطاب والاصطفاف والتموقع وتوظيف كل مناسبة او حدث لتسجيل النقاط.

 

لقد اختارت بلادنا تحت قيادة فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن تخوض هذه المعركة الاستراتيجية بتدرج وعقلانية، واليوم لا ينبغي ان يظل النقاش منصبا على انطلاق مسار محاربة الفساد، فهذا قد بات أمرا واقعا ومؤسسا. ولكن التحدي الحقيقي يكمن في مدى استعدادنا الجماعي لمواصلة هذا المسار، وصونه من محاولات الالتفاف أو التسييس، بما يضمن تحويله إلى مكسب وطني دائم لا مجرد محطة عابرة.

 

جلي أنها معركة تأسيس لمستقبل دولة حديثة وعادلة، تُدار فيها الشؤون العامة بمنطق الشفافية، وتحتل فيها الكفاءة مكانة فوق الولاء، ويحظى فيها المواطن بثقة تعكسها مؤسسات تُحاسب وتُراقب وتُصلح، وتقيم وتقوم وتحصن، وهذه هي المعركة الحقيقية التي لا مجال فيها للتردد والمساومة ولا للتسييس والتجاذب.

تصفح أيضا...