
تنويه افتتاحي:
كان من المفترض أن تكون هذه الكلمات مداخلة تحت قبة البرلمان، ضمن جلسة خصصت لمساءلة الحكومة حول ملف الهجرة غير النظامية، غير أن تأخر طلبي للتدخل حال دون ذلك. وإيمانًا مني بأهمية الموضوع، وحرصًا على إيصال الموقف للرأي العام الوطني رأيت أن أحول المداخلة إلى مقال رأي، أضعه بين أيديكم، بنفس الهاجس الوطني الذي يسترعي تحمل المسؤولية وعلى ذات النحو الذي وددت أن أخاطب به جمعيتنا الموقرة.
عن الهجرة غير النظامية
في زمن تتزاحم فيه التحديات، وتتشابك الأولويات، يحتل ملف الهجرة غير النظامية مكانة بارزة باعتباره تحديا واختبارا حقيقيا لصلابة الدولة وصرامتها، وحكمة القرار، ونُبل المقاربة. فليس من السهل المزج بين الحزم والرفق، وبين مقتضيات السيادة وصون الأمن والأرض والعرض من جهة وواجبات التعاطي الإنساني اللبق من جهة ثانية، وهذا هو التحدي الذي ترفعه الدولة اليوم، بكثير من الاتزان والأناة.
ولهذا، تستحق وزارة الداخلية، التنويه والإشادة وهي تمضي في تنفيذ إجراءات أمنية دقيقة، دون أن تُخلّ بكرامة الإنسان، أو تفرط في الأسس والثوابت الكبرى التي تأسست عليها الدولة. استجابة لإكراهات الضرورة واملاءات المسؤولية.
الهجرة غير النظامية لم تعد مجرد حركة عشوائية لِمُعدَمين عابرين للحدود، بل صارت معضلة شاملة، أمنية واقتصادية بقدر ما هي إنسانية واجتماعية، ووحشية بقدر ما يكتنفها من مآسٍ ومحن لا تُروى. فمن بين هؤلاء المهاجرين من لا يحمل معه غير الخوف واليأس، ومنهم – وللأسف – من يحمل بذور الجريمة والانفلات، ممن أثبتت الوقائع ضلوعهم في جرائم بشعة في بلادنا: سطو، حرابة، تهريب، وحتى القتل.
إن تفشي الجريمة، وانتشار الخمور والحبوب المهلوسة التي أفسدت العقول وأزهقت الأرواح، إشارات حمراء تنذر بأن ما كان محل تساهل بالأمس، لم يعد مقبولا اليوم. بل إن التراخي بالأمس قد ساهم اليوم في ترسيخ الفوضى، حتى صار القانون يبدو لبعضهم نشازا، والنظام شذوذا
ويبقى الجرح الأكبر، والذي نغفل عنه كثيرا، هو ذلك الذي يطفو فوق سطح المحيط الأطلسي، حيث تبتلع الأمواج عشرات الشباب الهاربين من الفقر، الباحثين عن وهم حياة جديدة، ليلفظهم الموج جثثا على السواحل. أكثر من 500 غريق في العام الماضي، وزادوا على المائة في الأشهر الأولى من هذا العام... أليس هذا مدعاة للمساءلة؟ أليس من أوجب الواجبات أن نضع حدا لهذا النزيف الإنساني المؤلم، قبل أن نتحدث حتى عن أمن حدودنا؟
ثم، كيف يتهم بلد كموريتانيا في ضيافته؟! وهي التي ما فتئت تفتح ذراعيها للغريب، وتستقبل اللاجئ والمحتاج دون تمييز أو تردد. أليس من المفارقات الغريبة أن تُدان القيم في وطنٍ بُني من كرم وعطاء وسماحة أهله؟ وكيف يشوه وجه الدولة التي ظلت، ولا تزال، مأوى للجميع؟ يكفي أن ثاني أكبر تجمّع سكاني بعد العاصمة نواكشوط، ليس مدينة ولا ولاية، بل مخيم "امبرة" للاجئين.
أليست هذه مفارقة عجيبة، أن تُشكّك النوايا في بلد يستقبل، بالنسبة إلى عدد سكانه، أكبر عدد من الأجانب في المنطقة والقارة؟ أليس من العبث أن تُثار الشكوك حول دولة سمحت — بلا تأشيرة — لغالبية الجنسيات جنوب الصحراء بالعبور أو الإقامة، وسهّلت شروط الإقامة إلى حد الإعفاء الكامل من الرسوم لعامين متتاليين؟.
وليس حرصنا اليوم على تصحيح أوضاع المقيمين في بلادنا خروجا عن مألوف العالم، بل هو امتثال لسنن السيادة، فدول الجوار تفعل أكثر من ذلك، ودول الشمال تمارس أضعاف ذلك، بينما يُطلب منا أن نتغاضى وننتساهل حتى لو هُدد أمن المواطنين، وزُعزعت السكينة العامة.
المعارضة حق، والنقد واجب، والمساءلة أمانة، لكن لكل ذلك شروط، أهمها أن نحفظ للوطن صورته، وأن لا نسمح بتحويل الاختلاف إلى خنجر في خاصرة الاستقرار. وعلينا، في غمرة هذا السجال، الحذر من الانزلاق في فخ الخطاب المغلوط. كما أشار الكاتب محمد لمين الفاظل، فإن بعض الأسئلة المطروحة هنا، وإن بدت بريئة، قد تتحول في الخارج إلى “شهادة من الداخل” تُوظف لتشويه صورة البلد، ويعاد تدويرها في خطابات مغرضة تتحدث عن عنصرية موهومة، وسوء معاملة لا وجود له إلا في مخيلة المزايدين.
والحقيقة أننا لا نعالج نتائج الحزم اليوم بقدر ما ندفع فاتورة الفوضى بالأمس. والفوضى لا تصنع الأوطان، بل تهدمها.
اليوم، نواكب مشروعا أعمق من معالجة الهجرة؛ اليوم نشهد إعادة ترميم شامل لجدران السيادة، وبناء نظام وطني جديد يرتكز على سلطة القانون، ويعيد الهيبة للمؤسسات.
نعم، إنها لحظة فارقة تتطلب من القائد أن يكون حكيمًا، صبورا، قادرا على الإبحار بمركب النجاة حين تهب ريح التحديات العاصفة. ولحسن حظنا فإن بلادنا اليوم تسير بهدوء وثبات اختارت لمقصورة القيادة رجل دولة يعرف كيف يوازن بين الحزم والتبصر، والإنصاف وفق روح القانون وأواصر الجوار والقربى، وبين القوة والعدل في زمن تتكالب فيه الأمم على الأمم ويكثر فيه المغامرون.