
شكّلت ندوة نواكشوط التي نظمها المعهد الموريتاني للدراسات الإستراتيجية، بمشاركة خبراء من الدول المغاربية الخمس، لحظة فكرية مهمّة لإعادة طرح سؤال ظلّ معلقًا منذ عقود: ماذا تبقى اليوم من مشروع الاتحاد المغاربي؟ وهل ما يزال ممكنًا التفكير فيه خارج منطق الشعارات والانتظارات السياسية المؤجلة؟
لقد أبانت مداخلات المشاركين، باختلاف زوايا مقاربتهم، عن حقيقة واحدة يصعب إنكارها: أن الاتحاد المغاربي في صيغته السياسية المأمولة ما يزال أسير الجمود، لكن فكرته لم تمت، ولا تزال تبحث عن مسارات أخرى للحياة.
لقد أثبتت التجارب المتراكمة أن الرهان الحصري على القمم السياسية الكبرى، والقرارات السيادية الشاملة، لم يعد كافيًا لإحياء مشروع تكبّله الخلافات الإقليمية وتعطّله الحسابات الضيقة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى الانتقال من منطق القمّة السياسية إلى منطق التراكم المجتمعي؛ أي من انتظار القرار من القمة، إلى صناعة الوقائع من القاعدة: من المجتمع، والجامعة، والاقتصاد، والثقافة.
فليس المطلوب اليوم اتفاقًا شاملًا يعيد بناء الاتحاد دفعة واحدة، لأن هذا النوع من التفكير لم يعد واقعيًا. المطلوب، بدل ذلك، هو إطلاق مسارات صغيرة، متوازية، قابلة للتنفيذ، وقابلة للتراكم، لا تستفزّ التوازنات السياسية، لكنها تُعيد بناء الثقة تدريجيًا بين الدول والشعوب والنخب.
وفي هذا الإطار، تبرز ثلاث قضايا جامعة يمكن أن تلتقي حولها كل الدول المغاربية دون حساسية سياسية تُذكر:
أولاها الأمن الغذائي والدوائي، وهو تحدٍّ مشترك تفرضه التحولات المناخية، واضطراب سلاسل الإمداد الدولية، وتزايد هشاشة الأمن الصحي. وثانيتها الطاقة المتجددة، باعتبار المغرب الكبير فضاءً طبيعيًا للشمس والرياح والاستثمار المستقبلي في الانتقال الطاقي. أما ثالثتها فهي تسهيل تنقّل الطلبة والباحثين، بوصفه الاستثمار الأعمق والأبعد أثرًا في تكوين أجيال مغاربية جديدة قادرة على التفكير المشترك.
هذه الملفات، بحكم طبيعتها التقنية، محايدة سياسيًا، ومباشرة الأثر، وتصلح لأن تكون جسورًا صلبة فوق مياه الخلافات الراكدة.
غير أن نجاح هذا المنطق الجديد يظلّ مرتبطًا بما يمكن أن تقوم به النخب المغاربية نفسها. فدورها اليوم لم يعد يقتصر على التشخيص أو تسجيل الأعطاب، بل أن تنتقل إلى ثلاث وظائف أساسية:
إنتاج خطاب واقعي غير انفعالي، يبتعد عن جلد الذات وتبادل الاتهامات؛ وبناء شبكات تفكير مغاربية عابرة للحدود، تشتغل بهدوء واستمرارية على قضايا السياسات العمومية والتكامل القطاعي؛ ثم تشجيع الجامعات ومراكز البحث على شراكات دائمة، لا موسمية، تُنتج معرفة مشتركة ومشاريع مشتركة.
وفي هذا السياق، تبرز تجربة عملية جديرة بالتأمل، تتمثّل في اتحاد المصارف المغاربية، الذي واصل انعقاد اجتماعاته بانتظام رغم الجمود السياسي العام، وبلغ مؤخرًا دورته التاسعة عشرة في نواكشوط. وهذه الاستمرارية تكشف حقيقتين مركزيتين:
الأولى، أن التكامل الاقتصادي ممكن حين يقوم على المصالح المباشرة لا على المزاج السياسي؛
والثانية، أن المؤسسات المهنية قادرة على حماية الفكرة المغاربية من التآكل حين تُدار بعقل مهني لا بشعارات سياسية.
ومن هذا النموذج يمكن الانطلاق نحو آفاق أوسع، من خلال تنسيق التحوّل الرقمي والامتثال المصرفي، وإطلاق آليات تمويل مشتركة للمشاريع العابرة للحدود، وتحويل الاجتماعات المصرفية من مجرد فضاءات تشاور إلى رافعة تدريجية للتكامل الاقتصادي. ولعلّ الدرس الأهم في هذه التجربة هو أن الاقتصاد قد يكون اليوم الطريق الأقصر لاستعادة الثقة المغاربية.
وحتى لا يظل هذا الطرح في دائرة الأفكار العامة، فإن جملة من المقترحات العملية يمكن أن تشكّل بدايات ملموسة:
إطلاق منصة مغاربية للبحث العلمي لتبادل البيانات وتوفير منح صغيرة مشتركة؛
تأسيس مجلس مستقل لرجال الأعمال لإطلاق مشاريع تجريبية خلال سنة واحدة؛ وإطلاق برنامج سنوي لتنقّل الشباب يشمل مئات الطلبة والفاعلين .
و مهما يكن فان جميع الخبراء المغاربين و غيرهم يتفقون إجماعا على أن كلفة غياب الاتحاد المغاربي لم تعد سياسية فقط، بل أصبحت اقتصادية مباشرة وباهظة على اقتصادات الدول الخمس، سواء على مستوى النمو أو التشغيل أو الاستثمار. فضعف الاندماج الإقليمي يحرم بلدان المنطقة من سوق يتجاوز مئة مليون مستهلك، ويجعل كل اقتصاد وطني يشتغل في شبه عزلة، مع ما يترتب على ذلك من ارتفاع كلفة الإنتاج، وضعف التنافسية، وتكرار نفس الاستثمارات دون تكامل.
كما أن غياب التنسيق المغاربي في مجالات البنية التحتية، والطاقة، والنقل، واللوجستيك، يؤدّي إلى هدر كبير في الموارد، ويضاعف الأعباء المالية على كل دولة بمفردها، بدل تقاسمها في إطار مشاريع مشتركة ذات مردودية أعلى. أضف إلى ذلك أن تشرذم السوق المغاربية يُضعف قدرة المنطقة على استقطاب الاستثمارات الأجنبية الكبرى، التي تبحث بطبيعتها عن فضاءات واسعة ومستقرة، لا عن أسواق صغيرة مجزأة.
وتشير التقديرات الاقتصادية، في أكثر من دراسة إقليمية ودولية، إلى أن نسب النمو في بلدان المغرب الكبير كانت ستتضاعف لو تحقق حدٌّ أدنى من الاندماج الاقتصادي، وأن آلاف فرص العمل تضيع سنويًا بسبب استمرار هذا الجمود. وبذلك يصبح غياب الاتحاد كلفة يومية صامتة يدفعها المواطن المغاربي في قدرته الشرائية، وفرص تشغيله، ومستقبل أبنائه.
وفي خاتمة هذا المسار، يبرز دور موريتانيا بوصفه دورًا محوريًا لا غنى عنه. فموريتانيا ليست فقط دولة مغاربية في موقع جغرافي متقدم، بل هي حلقة وصل إستراتيجية بين المغرب الكبير ومنطقة الساحل، تلك المنطقة التي تواجه اليوم تحديات أمنية جسيمة عابرة للحدود، من الإرهاب إلى الهجرة غير النظامية إلى الجريمة المنظمة.
إن أمن الساحل لم يعد شأنًا محليًا أو إقليميًا ضيقًا، بل أصبح مرتبطًا مباشرة بأمن الدول المغاربية، ويمتد أثره إلى أمن أوروبا نفسها، بل إلى السلم الدولي برمّته. ومن هنا فإن أي تصور جديد للتكامل المغاربي لا يمكن أن يكون مكتملًا دون إدماج البعد الساحلي في معادلة الاستقرار والتنمية والأمن.
وقد لا نرى الاتحاد المغاربي، بصيغته المؤسساتية الكاملة، في حياتنا السياسية القريبة، لكن يمكننا أن نرى بدايته في حياتنا الفكرية، والاقتصادية، والجامعية، والثقافية.
وإذا لم نستطع أن نغيّر الواقع اليوم،
فبوسعنا — على الأقل — أن نغيّر الطريقة التي نفكّر بها فيه.
فالتاريخ لا يصنعه المنتظرون، بل أولئك الذين يواصلون دفع الصخرة الى قمة الجبل … حتى وهي تتدحرج.

