بين التفاؤل والتحفّظ… قراءة شخصية في خطابات الرئيس بالحوض الشرقي / الوزير السابق عبد القادر ولد محمد

جمعة, 21/11/2025 - 21:17

 

تابعتُ باهتمام خطاب السيد.الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال زيارته الأخيرة للحوض الشرقي.
 ربما تجدر الإشارة إلى انني كنت قد تحمست بشكل عفوي وصادق  لخطابه التأسيسي حين أعلن ترشحه لأول مرة.  حيث انني  كتبت في السياق   عدة مقالات  أثمّن فيها خطابه شكلاً ومضمونًا، وكان ذلك بدافع دعم التناوب السلمي لا بدافع الولاءات   ولا الدعوات الخاصة ، إذ لم يدعني أحد إلى مهرجانه الأول، ولم يطلب مني أحد أن أكتب أو أساند.

 ورغم ذلك التأييد  العفوي و المبكر ،  كانت و مازالت لدي  مآخذ  عامة  على نهج الحكم، بل وحتى ملاحظات شخصية  نتجت عن تجارب عملية مع بعض رموز السلطة، من وزراء ومسؤولين عملت معهم، ولم يرقني أسلوب بعضهم ولا طريقة تعاملهم. بل ان  الجفاء حدث  مع من كنت أعتبرهم أصدقاء بسبب اختلاف النظرة إلى الشأن العام وإلى احترام الشراكة المهنية و ما تقتضيه الصداقة من ود . ومع كل هذا، ما زلت مقتنعًا بأن التصويت للسيد الرئيس  محمد ولد الشيخ الغزواني  في مأموريته الأولى كان الاختيار الأنسب، وأن منحه مأمورية ثانية – لا ثالثة – يمليه تقديري لمصلحة موريتانيا قبل أي شيء آخر.

بهذا الرصيد الشخصي، بكل تناقضاته،  تابعت خطاب السيد  الرئيس ابان زيارته الأخيرة للحوض الشرقي بنوع من التفاؤل الحذر.  و لعل أكثر ما استوقفني هو حديثه الواضح عن وضعية البلاد الأمنية. فقد حمل الخطاب نبرة طمأنة نحتاجها في وقت مضطرب، وبلغة تضع الأمن خارج دائرة الاستعراض. فنحن في منطقة حدودية مشتعلة، والجمهور لا ينتظر شعارات ولا انتصارات خطابية بقدر ما ينتظر ثبات الدولة واتزانها. في هذا المستوى، بدا الخطاب واقعيًا ومناسبًا.

وفي الجانب الدبلوماسي، لا أخفي قناعتي بأن موريتانيا تعيش وضعية مريحة نسبيًا.  وقد بينت  مؤخرا  بخصوص الحصيلة الدبلوماسية في مقال نشرته  جريدة "الشعب" الرسمية أن السياسة الخارجية للبلد تتسم بهدوء وتوازن وانفتاح محسوب، وهي ميزات نادرة في محيطنا الجغرافي.  و قد اعاد. خطاب زيارة الحوض الشرقي  التأكيد على هذا الاتجاه، وبدت لغة السيد الرئيس في هذا المحور منسجمة مع ما نعيشه فعلاً على الساحة الدبلوماسية.

أما في الشأن الداخلي،  فقد راق لي   تمسك  السيد الرئيس بخيار الحوار السياسي ورفضه للقطيعة.

 فالحوار، من حيث المبدأ، خيار صحيح، لكنه لا يُقاس بالنوايا بل بالنتائج الامر الذي يحتم علينا طرح تساؤلات من قبيل :هل يمكن أن ينتج الحوار الموعود توافقًا حول المصالح الوطنية الكبرى؟ هل يمكن أن يفتح نقاشًا هادئًا حول بعض ملفات الماضي؟ وهل سيحافظ في الوقت نفسه على الدستور وحدوده المحصنة؟ هذه أسئلة ضرورية. وأضيف هنا فكرة أراها محورية مفادها  محاولة  الوصول إلى صيغة إجماع بشأن وضعية الرؤساء السابقين، تقوم على ضمان أمنهم واحترام.رمزيتهم  مقابل التزام واضح بعدم خوضهم الانتخابات الرئاسية مستقبلًا، احترامًا لمبدأ التداول وتعذّر المأمورية الثالثة دستورًا ومنطقًا.  

ان مثل هذا التفاهم، إذا تحقق، قد يغلق باب المزايدات ويحمي الاستقرار السياسي لعقد كامل و قد يسهل الأمور للأجيال القادمة. 

وفي ملف الفساد، أجد نفسي أكرر ما كتبته أكثر من مرة  بان مكافحة الفساد لا تتحمل  كثرة البيانات   و ان المواطن  مل  من تكرار الخطاب، لأنه  لا يرى في الواقع  ما يترجم تلك الوعود إلى إجراءات ملموسة. فهذا ملف يحتاج إلى عمل صامت ودقيق، لا إلى فيض كلام يُبدّد الثقة.

 
وهنا يصبح ضروريا الانتقال من العموميات إلى المحاسبة الفعلية، عبر تحديد المسؤوليات بوضوح في ما تم الإعلان عنه من برامج ثم اختفى من الخطاب، مثل برنامج "الإقلاع" الذي أُطلق سنة 2020 قبل أن يُطوى ملفه بهدوء، وملفات العشرية التي انتهت – فعليًا – بملف واحد، ومشروع عصرنة نواكشوط الذي لم يعد يحتل الصدارة في الخطاب الرسمي. من حقّ المواطن أن يعرف أين ذهبت تلك البرامج، ومن واجب الدولة أن تطمئنه على أن الوعود الحالية  لن تلقى مصير الوعود السابقة.

وفي الجانب الاجتماعي، توقف السيد  الرئيس عند خطورة الخطاب القبلي، وهو أمر مهم وضروري. لكن قوة الخطاب يجب أن ترافقها إشارات عملية تطمئن الناس على أن معيار الكفاءة سيُقدّم على التوازنات القبلية في التعيينات، وأن الدولة فوق الروابط الضيقة لا خاضعة لها.

أما التنمية المحلية، فما زلت أرى أن أكبر إخفاق للدولة الوطنية هو عجزها الملحوظ عن إيصال الخدمات والحقوق إلى المواطنين في أنحاء الوطن كافة. ورغم كثرة المشاريع المعلنة في الحوض الشرقي، تظل المشكلة أعمق من أي برنامج ظرفي. فنحن أمام إرث ثقيل من المركزية الجاكوبونية التي خنقت اللامركزية وجعلتها شكلية أكثر مما هي فعلية.

وبين ما سمع  المواطن من خطابات وما يعرفه  من واقع،  ينشأ لدي مثل كل مواطن عادي ..  شعور مركب من تفاؤل بما تحقق وبما هو قيد التخطيط، وتحفظ مما لم يتحقق وبما تم تجاوزه بصمت. 
ومع ذلك، أحتفظ شخصيا بقناعتي بأن أمام السيد  الرئيس -  في مأموريته الثانية والأخيرة – فرصة حقيقية لصنع بصمة لا تُنسى: في الحكم الرشيد و ما يترتب عليه من مكافحة الفساد، وفي التنمية العادلة التي تقتضي التوزيع المنصف للثروات الوطنية، وفي تعزيز اللحمة الاجتماعية  بغية  مواجهة مخاطر الجغرافيا وتحديات المستقبل. 

حاصله هذه فرصة تاريخية، و أملنا  أن تُستثمر كما ينبغي لها ...

عاشت موريتانيا! 
..

 

عبد القادر ولد محمد.

/

تصفح أيضا...